بقلم المؤرخ الكبيرالدكتور فيليب حتي
المقاومة ليست في الهوبرة والشعارات الفارغة واجترار حوادث انتصارات الأمس الغابر بل بالثقافة ومعرفة التاريخ ومعرفة الذات.
المقاومة الفكرية هي ام واساس كل مقاومة أخرى وكل مقاومة لا تبنى على الفكر والثقافة ومعرفة الذات هي مقاومة زائلة وغير فاعلة وايلة الى الذوال.
قمة المعرفة والمقاومة هي معرفة الذات والتاريخ ومن لا يعرف تاريخ بلده وشعبه لا يمكنه ان يقاوم ليحررهما فليس من شخص يقاوم ويجتهد من اجل شيء لا يعرفه الا اذا كان من مقاومي الشعارات والهوبرة.
اعرف تاريخك تكون خطوة اول خطوة نحو المقاومة وتكون أنشأت الاساس الذي ستقيم عليه قلعة لا تخترق اسمها لبنان.
اقرأ تاريخك لتقاوم.
السلاح بيد جاهل هو سلاح مجرم لا سلاح مقاومة.
واذا اردنا ان نرجع الى الينابيع واصل الفكر المقاوم لا بد لنا من ملامسة فكر احد اهم أعمدة الفكر المقاوم افيلسوف المقاومة اللبنانية الراحل الدكتور شارل مالك.
سنعمل على نشر مقالات ودراسات لاعلام وإعمدة أخرى من أعمدة المقاومة في المستقبل علنا نعيد معرفة ذاتنا وتاريخنا من خلال كلماتهم.
لبنان الطابع الجغرافي والتاريخي والحضاري المميز
بقلم المؤرخ الكبيرالدكتورفيليب حتي
عند مصب نهر الكلب – على مسافة بضعة اميال من بيروت شمالاً – حيث يغسل الجبل قدميه عند البحر خلّف لنا الزمن على صفحة الصخر الكلسي تسعة عشر نقشاً كتابياً بلغات ثمان بَدءاً بالمصرية القديمة ، فالاشورية ، فالبابلية ، فاليونانية ، فاللاتينية ، وأخيراً بالافرنسية والانكليزية والعربية . هناك عند هذا الممر الضيق كان اهل لبنان بعددهم القليل يصمدون في وجه الاجنبي المجتاح ، وهناك كانت القلة العددية تجمّد الكثرة ان لم تكن تفقدها كل قيمة عسكرية.
اول من خلد ذكر مآتيه العسكرية نحتاً او كتابة كان رعمسيس الثاني ، عدو الحثيين ، وذلك في أوائل القرن الثالث عشر قبل المسيح . ثم سار في اعقابه موكب من الغزاة : اسرحدون الاشوري قاهر مصر السفلى ، ونبوخذنصر البابلي مخرب مملكة يهوذا ، والسلطان سليم الذي ضم سورية ومصر الى الامبراطورية العثمانية ، والقائد الانكليزي ألنبي ، والقائد الافرنسي غورو.
الى جانب هؤلاء نلتقي بالامبراطور ” ماركوس اوريليوس انطونيوس الذي لا يقهر” وهو كركلا احد الاباطرة السوريين الذين تسنموا عرش رومه ، وابن عم الاميراطور سبتيموس سفيروس الذي ولد ابوه في لبنان . ان هذا الامبراطور خلف لنا ايضاً نقشاً لاتينياً يأتي فيه على ذكر الاعمال المجيدة التي قامت بها الكتيبة الغالية الثالثة.
لكن ليس كل العظماء الذين اجتازوا المضيق عند هذه الصخرة سجلوا اسمائهم . فان الاسكندر المقدوني مرّ من هناك ، وصلاح الدين الايوبي مرّ بالصخرة ولكنهما لم يتركا لنا اثراً كتابياً . وفي السنة الواقعة بين 1860 و 1861 جاءت الحملة الفرنسية التي بعث بها نابليون الثالث للمساهمة باحلال السلام بين الموارنة والدروز ، ولكن القائد ، عوضاً من ان يكلّف نفسه عناء نحت صخرة جديدة لكتابة نقش يخلد اعمال حملته ، فانه محا نقشاً كنابياً مصرياً ( بالحرف الهيروغليفي ) وجعل نقشه مكانه .
وفي سنة 1918 سجل الجيش البريطاني الزاحف من الجنوب نقشاً آخر ذكر فيه اعماله الحربية. وفي عام 1930 اجرى بعض التعديل في النص بحيث اصبح يشمل الجيش الاسترالي والنيوزيلندي والخيالة الهنود والجيش الفرنسي المغربي المعروف بالصباهيين وقوات الجبش العربي التابعة للملك حسين .ولكي لا يقال بان الافرنسيين تخلفوا عن ركب القواد العظام الذين تركوا لنا نقوشهم على صخرة نهر الكلب ، فانهم قاموا عام 1920 بكتابة نقش نوهوا فيه بالاعمال الحربية التي قام بها الجيش الفرنسي – بما في ذلك الفرقتان الجزائرية والسنغالية – اشارة الى احتلاله دمشق .
وينتهي عهد هذه النقوش بنقش عربي اقامه لبنان تخليداً لذكرى جلاء آخر جندي من جنود عهد الانتداب ، وذلك في 31 كانون الاول سنة 1946 . فهل ثمة في الدنيا متحف كهذا المتحف المقام على صخرة في العراء يشتمل على كتابات وتماثيل للآلهة وللملوك – كتابات وتماثيل تفتح امام ناظري الزائر المتفرج كوة صغيرة يطل منها فيستعرض مواكب هذا التاريخ المتقطع المتنوع الألوان ؟
لقد ازدحمت حوادث التاريخ الخطيرة في لبنان ، لبنان الغني بالزمن الصغير بمساحته ، كما لم تزدحم في اية بقعة اخرى من بقاع الدنيا مساحتها مساحة لبنان. فقد صاحب التاريخ لبنان منذ اقدم العصور ولا يزال التاريخ يصاحبه ويلازمه . فانه قبل ان عُرفت هذه البقعة باسمها الحالي – لبنان – ومنذ الوف السنين قبل ان عرف الانسان كيف يضبط الزمن ويقيده باشهر وسنين ، كان سكان الكهوف يسكنون على شطآنها وفي سهولها الداخلية . فقد وجد المنقبون آثار الانسان الى جانب نقوش صخرة نهر الكلب عند طرف الرأس الداخل في البحر بقايا بشرية تدل على ان هذه المغاورفي الصخر كانت في العصر الحجري الاول – الذي كان يتميز بغزارة الامطار وشدة البرد – ملجأ للانسان ، قبل ان اصبح انساناً بالمعنى الصحيح لهذه اللفظة ، يعينه على مصارعة الحياة.
ان تاريخ لبنان المدون تاريخ مديد يشمل فترة من الزمن مدتها خمسة آلاف سنة – اي اطول من تاريخ الولايات المتحدة بثلاثين ضعف – فاي شعب يحق له ان يدعي انه وريث العصور كلها كما يحق للشعب اللبناني ان يدعي ؟
قد يصح ان ننعت لبنان بأنه ، من حيث الجغرافية ، بلد ميكروسكوبي ولكنه من حيث التأثير ، بلد كوني ، لان تاريخه في الواقع جزء كبير من تاريخ عالمنا المتحضّر .
ان اقدم شعب استوطن لبنان ، نعني اقدم شعب يعرفه التاريخ ، كان الشعب الكنعاني السامي الذي انتشر ايضاً في الاطراف السورية المجاورة وفي كثير من بقاع فلسطين . والحضارة الكنعانية اساس ومرتكز قامت عليها الحضارة العبرية في فلسطين والحضارة الآرامية في سورية . فان كلا الشعبين ، العبران والآراميين ، جاءا البلاد الفلسطينية والسورية في عصور تالية ، وكلاهما اخذا عن حضارة الكنعانيين واقتبسا الكثير قبل ان تمكنا بدورهما ان يعطيا العالم شيئاً . ولقد اعترف الناس منذ اقدم الاجيال بفضل ما قدّمه العبران للحضارة العالمية ، ولكن ظل الناس حتى الفترة الاخيرة يجهلون حقيقة ما قدمه الكنعانيون للحضارة العبرية.
فان العبران الذين استقروا بين الكنعانيين – الذين سمّاهم الاغريق فيما بعد الفينيقيين – اقتبسوا الكثير عنهم في الدين واللغة والفنون وفن العمارة والادب والزراعة والصناعة . فقد كانت كنعان في الالف الثالث والثاني قبل المسيح جسراً حراً تمر عليه البضائع المصرية غي طريقها الى بابل ، والبضائع البابلية في طريقها الى مصر. ولم يقتصر الامر على البضائع المادية بل تعدّاها الى انتقال الافكار والتيارات الحضارية .
ولم يقتصر اثر الحضارة الكنعانية على الشعبين العبراني والآرامي اللذين بدورهما اثَّرا في حضارة الشرق كله بل تعداهما الى الشعب اليوناني الذي بدوره اثر في حضارة الغرب كلها ، وبذا اصبحت هذه الشعوب الثلاثة وريثة الحضارة الكنعانية . وحسبنا ان نشير الى تلك الرموز السحرية – حروف الهجاء الفينيقية – التي تعد بحق اعظم اختراع حققه الانسان . بواسطة هذه الرموز يستطيع الانسان ان يسجل افكاره وعواطفه ويبقيها بعده ارثاً للخلف . وبواسطة هذه الحروف شاد الاغريق من كنوز عبقريتهم الادبية والفلسفية صرحاً لا يقدر بثمن . وقد اخذ الرومان هذه الحروف الهجائية عن الاغريق ، فدوّنوا بها قوانينهم المشهورة التي اتحفوا بها العالم المتمدن . وفي الوقت ذاته كان الشعب الآرامي ينشرون هذا الحرف الفينيقي بين الفرس والهنود والارمن . واهم من هذا – بالنسبة لنا – انتشار هذا الحرف وشيوعه بين العمران الذين سجلوا به ادبهم الديني الخالد – اسفار التوراة – وبين العرب اصحاب لغة القرآن الكريم . وحسب اللبنانيين القدماء فخراً واعتزازاً انهم خلقوا هذا الحرف ، ولو انهم لم يقدموا للتراث الانساني غير هذا الاختراع العظيم لظلوا بحق وجدارة يتبوّأون مركزاً مرموقاً في تاريخ الفكر البشري .
انشأ الفينيقيون على جانبي البحر الابيض المتوسط الشمالي والجنوبي مستعمرات كانت لهم مراكز اشعاع حضاري . وكان مرتكزهم على الشاطئ الجنوبي مدينة قرطاجة ربيبة صور ومنافسة رومة في السيطرة على اواسط البحر المتوسط . وكان القرطاجيون يحسبون انفسهم كنعانيين . وفي الواقع انهم كانوا يعرفون بالكنعانيين حتى القرن الخامس بعد المسيح . وقد صنع الفينيقيون مراكب من خشب الارز، واجتازوا بها اعمدة هرقل واقاموا لانفسهم مستعمرات غربيها وبذلك شقوا الحجب التي كانت تفصل بين العالم القديم المعروف ، وبين العالم المجهول وراء البحار . ولا مراء بأن اكتشاف المحيط الاطلسي يعد انتصاراً من اعظم الانتصارات وابعدها اثراً في تطور الحضارة .
لم يكن لبنان جزءاً من العالم الذي بداء فيه سير التاريخ وحسب ، وانما يمكن اعتباره ، تجوزاً ، جزءاً من تلك البقعة التي يطلقون عليها اسم الارض المقدسة ، التي تغنى انبياء وشعراء بمجدها وبجمال ارزها وجودة نتاجها . قممها العالية المغطاة بالثلوج كانت ولم تزل مصدر وحي روحي للكتّاب ، ومعاقلها معتكفاً روحياً للنّساك والعباد . جماعات من صيدا وصور امّوا الجليل ليسمعوا عظات السيد المسيح ولينتفعوا بعجائبه ، وقد زار المسيح ذاته شاطئ لبنان الجنوبي . وقضى بولس الرسول اسبوعاً في صور وعرج على ميناء صيدا حيث زار اصدقاء له . واسم التوراة في الاغريقية Ta Biblia وهذا الاسم يُرّد في اصله الى كلمة بيبلوس اي جبيل .
وكما ان شبه الجزيرة العربية تتميز بصحرائها ، ومصر بنيلها ، وبلاد ما بين النهرين ( اي العراق القديم ) بفراتها ودجلتها ، فان لبنان يتميز بجباله . جبال لبنان ميزته الجغرافية الخاصة ، وجبال لبنان عامل حيوي في حياته . فان موقعها يؤثر تأّثيراً بعيد المدى في مناخه وفي معدل سقوط المطر . كما ان ارتفاعها يعد عاملاً في تنوع نباته وحيوانه ومناظره . والى جانب هذا فان تكوين الجبال الطبيعي كان عائقاً يحول دون اتصال لبنان بالبلدان الشرقية الداخلية وعاملا جغرافياً يجعل اتجاهه نحو بلدان الغرب .
ولبنان ، من مجموعة البلدان الواقعة بين مراكش غرباً والعراق شرقاً هو البلد الوحيد الذي ليس فيه صحراء ولا بين مستوطنيه قبلئل رحل او متبدية . وفضلا عن هذا فان طبيعته الجبلية قد تركت اثرها الشديد في عزم سكانه ونشاطهم . ومنذ اقدم العصور التاريخية نجد ان عذع البقعة – لبنان- كانت تستهوي وتجذب اليها سيلا من المهاجرين من الشعوب المتوسطية والسامية والهندوجرمانية .
وقد كانت هذه البقعة بمثابة جسر او ممر ضيق يربط بين اجزاء عظيمة من الارض ذات اهمية كبيرة ، وفي الوقت ذاته كانت ملجأ يحمي الجماعات ويعزلها . اما هذا الجسر ، او الممر الضيق ، فقد كان الشاطئ والسهل المرتفع ( البقاع ) الواقع بين سلسلتي لبنان الغربي ولبنان الشرقي ، واما الملجأ فقد كان شواهق ولبنان وقممه . وسكان الممر ، اي سكان الساحل والبقاع ، فقد كانوا بقايا طبقات بشرية : طبقة تعيش وتبني على انقاض طبقة سبقتها . اما سكان الجبال فقد كانوا اشبه بالفسيفساء المتنوعة الالوان حيث تعيش الجماعة الواحدة الى جانب الاخرى .وهو تكوين اجتماعي طبيعي يشبه التكوين الاجتماعي العام في الشرق الادنى غير ان داخلية لبنان تعكس هذا التركيب الاجتماعي بالوان زاهية واضحة المعالم . وفي هذه اللوحة التي تشبه الفسيفساء نجد جماعة تعيش الى جانب جماعة اخرى وفي الوقت ذاته تحافظ على خصائصها الاجتماعية والحضارية والعرقية .
لبنان جبل بكل ما في الكلمة من معنى . وكجبل فانه قد تمتع خلال الاجيال بنعمة الاستقلال الجزئي والاستقلال الكامل . فانه كان ابداً يمثل الخط الغاصل الذي كان الفاتح يستطيع الوصول اليه. واذا صدف ان استطاع الفاتح ان يغزو ارضه فانه كان يجد من الحكمة ان يبقي على كيانه المستقل . ويشهد التاريخ مرة بعد مرة ان الاستيلاء على لبنان كان يبدو للغازي قريب المنال كالسراب ولكن لبنان في الواقع لا يُنال . فان الفاتحين العرب في اواسط القرن السابع للميلاد استطاعوا ان يدرجوا لبنان في الامبراطورية العربية ، ولكنه كان ادراجاً صورياً اذ انه لم تكد تمر بضع عشرات من السنين حتى رفض سكانه من الموارنة دفع الجزية الى خلفاء بني امية في دمشق وليس هذا وحسب وانما فرضوا فعلاً على بني امية نوعاً من الجزية يدفعها الامويون اليهم ضمانة لتصرفهم تصرفاً مرضياً . وبينما نجد ان وادي النيل والعراق . حيث كانت اكثرية السكان مسيحية زمن الفتح العربي ، قد استسلما واصبحا فعلا قطرين اسلاميين ، فان لبنان الجبل احتفظ باكثرية مسيحية حتى يومنا هذا . وفي مستهل القرن السادس عشر ادرك العثمانيون الذين اخضعوا غربي آسية انه من الخير لهم ان يحتفظ الجبليون اللبنانيون باستقلالهم الذي كانوا ينعمون به زمن المماليك. ولكن اللبنانيين لم يقنعوا بهذا بل ان امراءهم ، اشباه فخر الدين المعني ( توفي 1653 ) وبشير الشهابي (توفي 1850 ) تحدّوا سلطة الباب العالي وشقوا عصا الطاعة . وبعد حوادث عام 1860 اعترف دولياً باستقلال لبنان وظل ينعم بذلك الاستقلال حتى الحرب العالمية الاولى .
ان ما قدمه اللبنانيون من خدمات للحضارة العالمية والتي بدأ بها الكنعانيون / الفينيقيون لم بنته امرها في العالم القديم بل استمرت الى الفترة الهلّينية . فاننا نجد في قائمة الفلاسفة الهلينيين ، ولا سيما في قائمة الفلاسفة الرواقيين واصحاب الفلسفة الافلاطونية المستحدثة ، كما سيبدو فيما بعد ، فلاسفة من اصل لبناني يعدون من اشهر الفلاسفة ومن ابعدهم اثراً . ونحن نعلم ان الارث الحضاري البارز الذي خلفه الاغريق للحضارة العالمية كان فلسفتهم . وقد اتم الاباطرة الرومانيون الذين تحدروا من اصل سوري / لبناني بناء اعظم هيكل في العالم على ارض لبنانية : هيكل بعلبك ، مدينة الشمس كما كان يعرفها الغرب ( Heliopolis ) . فان آثار هذا الهيكل تفوق يعظمتها وروعتها اية آثار اخرى خلفها الرومان بما في ذلك آثار رومة ذاتها .
وقد كانت بيروت ، عاصمة لبنان اليوم ، مركزاً لمعهد الحقوق . وقد ظل هذا المعهد المشهور ، الى ان دمرت المدينة في الزلزال الذي وقع في اواسط القرن السادس الميلادي ، يحتفظ بالمقام الاول بين جميع المعاهد الشبيهة به في الولايات الرومانية باجمعها . وقد كان من بين الحقوقيين الذين اسهموا احسن اسهام في وضع التشريع المشهور المعروف بتشريع يوستنيانوس استاذان من اساتذة معهد بيروت وهما بابنيان واولبيان . ونحن نعلم ان القانون كان المفخرة العظيمة التي خلفها الرومان للحضارة العالمية . وها ان يوستنيانوس يخلع على بيروت ( Berytus ) لقب ” ام الشرائع ومرضعتها ” .
وقد ازدهرت في العصور المتوسطة جاليات لبنانية من تجار وصناعيين في كثير من المدن الاوروبية : في اوستيا (Ostia ) ومرسيليا وبوردو ، وذلك للمقايضة بين بضائع الشرق والغرب على غرار ما كان يفعله الفينيقيون اسلافهم . ولبنان اليوم كلبنان امس : جمهورية تتألف في الدرجة الاولى من تجار ورجال اعمال . فان الواحد منا عندما تطأ قدمه سواحل لبنان لا يتمالك عن الشعور بأن ذلك الجو التجاري الفينيقي هو هو جو ذاك الساحل الذي كان يزخر بالنشاط والحركة والحيوية . تلك الصفات التي كانت تتصف بها الحياة الفينيقية من حب الاستطلاع واعجاب بالرائع . وتشوف الى المجهول ، لم تخب على ممر الاجيال ، وذلك الدفق من الحيوية لم يهمد . فان جاليات من احفاد الفينيقيين تعيش في القاهرة وفي باريس وفي مانشستير ونيويورك وسان باولو وبونس ايريس وسدني وفي كثير من المدن غيرها . وفي القرن التاسع عشر كان اللبنانيون اول شعب من شعوب العالم العربي التي استجابت بكل قواها ومشاعرها الى الحوافز المتدفقة عليهم من الغرب .
وقد كان تجاوب لبنان مع الغرب سريعاً وشديداً . فقد تناول زخم الغرب العنيف جميع حقول الحياة : في اساليب التجارة والصناعة ، في العلم والافكار الجديدة ، في اساليب الحكم والتربية ، وفي المؤسسات الاجتماعية والسياسية الحديثة . وقد كان لبنان اشبه بجسر انتقلت عليه هذه الاساليب الغربية العصرية وهذه الافكار الجديدة والمؤسسات الاجتماعية وتجاوزته الى سائر لقطار العالم العربي الذي كان انذاك في حالة سبات . وقد تجسدت من تلك الافكار الجديدة الوافدة على لبنان من الغرب فكرتان حيويتان بارزتان : القومية والديمقراطية . فقد كان لبنان السبّاق في اعلان ذاته جمهورية . واول نظرة القتها سورية وفلسطين والعراق على العالم الغربي كانت من خلال النافذة اللبنانية .
جميع هذه الصفات – الجغرافية والتاريخية والثقافية – تدل على ان لبنان يتميز بذاتية تبرر دراسته دراسة مستقلة رغم ان مساحته لا تتناسب وعظم مقامه . وقديماً اشار ” ابو التاريخ ” هيرودوتس الى اهمية البلدان الصغيرة بقوله :
“انني سأهتم بالبلدان الصغيرة اهتمامي بالكبيرة منها ذلك لان اكثر الامم اتي كانت في سالف الزمان عظيمة اصبحت صغيرة، والامم العظيمة في يومنا هذا كانت في سالف الزمان صغيرة. ولاني موقن بان اقدار البشر عرضة للتغييّر الدائم فلن افرّق في دراستي هذه بين امة كبيرة وامة صغيرة .