كبريال مراد
موقع لبنان الآن
جبل يلامس البحر
جبل يلامس البحر
صحيحٌ أنّ آثار “نهر الكلب” (إلاّ أقدمها نقش نبوخذ نصّر)، تقعُ في منطقة الضبيّة العقاريّة، غير أنّ مداها الطّبيعيَّ هو صوب زوق مصبح.
وموقع مصبّ النهر في البحر يتميّز بجبل صخري يقتحم مياه البحر حتى يغرق فيها ويسدّ طريق البر الساحلية، ما يضطر العابر المصمم إما إلى خوض البحر لمتابعة تقدّمه على الساحل باتجاه جونية، أو إلى تسلٌق الجبل الصخري المنتصب أمامه ثم الهبوط من الناحية الأخرى على الشريط الساحلي. وهنا يجب العودة الى الوراء، الى تلك الأيام التي لم تكن الحداثة قد وضعت بصماتها بعد على هذا المكان، لتتضح أهمية هذا الموقع ولتبرز معها الأسباب المكوّنة لهذه اللوحات التذكارية.
قبل ان تحوّل الردميات هذا المكان المقفل بالجبل والبحر، الى طريق سريع، وقبل ان تشق الجرافات النفق الذي اجتاح الصخور وفتح باب المتن على كسروان ومنها على شمال لبنان، كان العابر يجد صعوبة في ذلك تقترب إلى حدّ الاستعصاء. أما عبور الجيوش بعديدها وعتادها، فكان من رابع المستحيلات. لذلك فإن الغزاة الذين قهروا الجبل والبحر واجتازوا تلك النقطة إلى ما يليها، فقد عدّوا عبورهم إنجازاً كبيراً، فعملوا على تخليده بما تركوه من نقوش على الصخور قبالة مصبّ النهر، هي اليوم
كناية عن 22 مسلّة نقشت على الصخر لتروي تفاصيل 22 قصة تاريخية.
لماذ سمي “نهر الكلب”؟
الواقع أن أصل تسمية “نهر الكلب” يكاد يضيع بين الأسطورة والحكايات وكتب التاريخ.. ومن الشائع أسطورة من القرن الرابع عشر تُنسب إلى كاتب يدعى “فارس أرفيو” تحدث عن تمثال لكلب منحوت في الصخر، وقد جعله القوم في أعلى رأس الجبل الصخري، مشرفاً على البحر. وتقول الأسطورة إن مهمة “الكلب الذي من صخر” كانت إنذار أهالي تلك الناحية وما يليها بوصول جيوش الأعداء. وقيل إن نباحه كان يشق البحر والفضاء حتى يبلغ جزيرة قبرص!
وجاء في رواية أخرى أن الأتراك العثمانيين، حين نزلوا بجيوشهم تلك المنطقة، عمدوا إلى قطع رأس تمثال الكلب ورموه في قعر البحر… “حيث لا يزال يظهر جلياً للعيان كلما كانت المياه هادئة صافية”.
تلك نبذات من الحكايا الأسطورية حول الكلب والنهر الذي حمل إسمه. لكن الأغرب من غرابة هذه الأساطير هو ما ورد في تقرير (حقيقي) للشركة الأوسترالية التي شقت سكة الحديد التي وصلت بيروت بجونية، وجاء في ذلك التقرير أن العمّال والمهندسين في ذلك المشروع “رأوا في البحر تمثالاً ضخماً منحوتاً على شكل كلب”. إلا أن أحداً لم يذكر سبب عدم اهتمامهم برفع التمثال من الماء…
تاريخ لبنان في نقوش
تُعدّ قمّة جبل “نهر الكلب” الشاهد الحيّ على الجيوش التي غزت هذه البقعة أو عبرت منها في غزوها، كما أنها شاهد “صخري” على تأسيس الدولة اللبنانية وعلى المراحل التي مرّ فيها لبنان، ابتداء من الألف الثاني قبل الميلاد حتى يومنا هذا.
هو كتاب من صخر يتضمّن تاريخ البلد بلغات عدة. فنقوش “نهر الكلب” تظهر بـ 7 لغات مؤرّخة. وإذا كانت المسلات القديمة التي أنجزت بين الألفين الثاني والأوّل قبل الميلاد، تهدف إلى إظهار القوة الإلهية للملوك من خلال نقش رسم شخص الملك في الصخر، فإنّ المسلاّت الحديثة جُعلت لأسباب وغايات أخرى غير هذه، منها السياسي، كتسجيل عبور أحد الجيوش لتلك النقطة، أو حتى حياتي كافتتاح خط سكة الحديد.
أما أقدم المسلات في صخور “نهر الكلب” فهي المصرية التي تصوّر الفرعون رعمسيس الثاني يقبض بقوة على شعر عدوه الجاثي مستسلماً أمامه، وفوقه علامات الإله “رع”. وثمة كتابات باللغة الهيروغليفية، تآكلت أجزاء أساسية منها بحيث لم يوفق أحد في فك رموزها وتفسيرها. وإذا كانت للفرعون ثلاث مسلات، تدليلاً على عظمته، فالملوك الآشوريون خلّدوا أنفسهم بستّ مسلات لكل ملك، وعلى كلٍ منها نصوص منقوشة، أمكن للمختصين تأريخها وتحديد الفترة التي تعود إليها، إلا أن التآكل الذي تسبب به تقادم عوامل الزمن والطبيعة عليها، جعل تفسيرها مستحيلاً هي الأخرى. وتشهد هذه المسلات على الوضع السياسي في المنطقة في الألف الأوّل قبل الميلاد، “حينما كانت مدن هذا الساحل تقوم بالانقلابات على الغازي الآشوري، بعدما تنال الدعم الضروري من فراعنة مصر”، كما يذكر المؤرخون.
في تلك الأزمنة كان الملك الآشوري يأتي على رأس جيشه ليقمع تمرّد المدن ويأخذ الجزية من أهلها بعد أن يخضعهم. وهذا ما فعله “أسرحدون” الآشوري الذي خلّد صورة وجهه منقوشة على صخور “نهر الكلب”.
وإن كان لبعض المسلات بُعد تاريخي يؤرخ للأحداث السياسية، فلغيرها بعُدٌ إنساني يُظهر مبلغ الغيرة عند بعض الغزاة الذين حاولوا على ما يبدو، محو آثار ونقوش الذين سبقوهم، أو نقش صورهم على صور الذين سبقوهم.
فمسلّة ملك فرنسا نابوليون الثالث منقوشة مرتين على الصخرة نفسها. وكان الملك الفرنسي قد أرسل سنة 1862 فوجاً عسكرياً مؤلفاً من 7000 رجل للتدخل في الجبل الذي كان يعيش المجازر الطائفية يومها. وعند انتهاء عمليات الجيش رغب قائده أن ينحت مسلة على صخور “نهر الكلب” لتخليد مناسبة عبوره تلك المنطقة، فما كان منه إلا أن طلب نقش صورته على مسلة كانت موجودة هناك وتعود للفرعون المصري رعمسيس الثاني.
والظاهر أن نحت المسلات كان عندهم يشير إلى السيطرة. ذلك أن الأتراك، وما إن استعادوا السيطرة على منطقة مجرى النهر، حتى عمدوا إلى محو نقوش الملك الفرنسي. لكن سيطرتهم تلك لم تدم سوى سنوات قليلة، آلت الأمور بعدها للفرنسيين مجدداً، فأعادوا تخليد غزوة ملكهم نابوليون الثالث بنقش حفروه على المسلة في العام 1919 فوق النقش العثماني. وبقي التلاعب بالنقوش على المسلات قائماً خلال الحرب العالمية الأولى بين جيوش الحلفاء والقوات التركية.
احجام واشكال
تختلف المسلات على صخور “نهر الكلب” من حيث أشكالها وأحجامها. فأكبرها حجماً هي المسلة المملوكية التي نقشت أمام الجسر الذي بناه السلطان برقوق تحسباً لغزوات تيمورلنك المغولي، وهي مؤلفة من عشرة أسطر، وكانت مؤرّخة، ولكن القدر شاء أن يتحطّم منها الجزء المنقوش عليه تاريخها.
وفي المرحلة اللاحقة استعملت القوات الفرنسية والإنكليزية الموقع لتؤرّخ تحرّكات جيوشها ودخولها إلى لبنان. وبعد انتهاء عهد الانتداب، عمدت الدولة اللبنانية الفتية بدورها إلى تحقيق نقوش جديدة تخلّد من خلالها حدثَيّ الاستقلال والجلاء. وجاء مطلع الألفية الثالثة ليضيف لوحة لبنانية جديدة أرّخت الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام 2000.
لبنان في ذاكرة العالم
بعد كل ما سبق، كان لا بد أن يدخل لبنان إلى ذاكرة العالم في اليونسكو من باب الأهمية التاريخية لموقع صخور “نهر الكلب” وما تحمله من شهادات تعود إلى مختلف مراحل التاريخ. وهذا ما سعت إليه المديرية العامة للآثار ونجحت في ذلك سنة 2005، بعدما تم تأهيل الموقع من جانب “المؤسسة اللبنانية للتراث” تحضيراً لذلك.
وقد سمح مشروع التأهيل بتقديم الموقع الى الزوار في شكل علمي ومبسّط، ليجد الزائر أمام كل مسلّة، ترجمة للنص المحفور عليها، باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.