القرية اللبنانية تدمغ الطبع اللبناني وتميزه عن غيره . فلا يوجد مجتمعٌ ريفي في الشرق الأوسط يشبه المجتمع القروي اللبناني ، ولا سيما في الجبال ، مع أن بعض الشبه نجده في القرية السورية ، والقرية الفلسطينية .
في القرية اللبنانية فرح ، ومرح ، وسلام نفس ، وتواصل تُراث . هنا الخُلق الصلب المتين . هنا الزمن بألوف سنيه يصب خبرته ويختزنها ، شهادة ً على أن َ الانسان في هذه الأرض اكتشف ، وقدر ، وحفظ .
هنا الأعياد ، والأعراف تتلاحق بهدوء من مناسبة إلى مناسبة ، ومن فصل إلى فصل ، ومن موسم إلى موسم . هنا ” الكنكة ” العائلـّية الهنيئة . هنا العافية ، والعمر الطويل . هنا السلام ، والركون إلى الأسباب الأولى البسيطة . هنا حتى الخطيئة مغفورة ، لأنها تـُصنع ببراءة .
ولأن الانسان غير ماكر ، وغير معقـّد ، وغير متمرّد في صنعها . لبنان ، في الدرجة الأولى ، بقريته . وهكذا فعندما يفكـّرالعالم العارف ، بلبنان . فمن أوّل ما يفكر به قريته الهادئة ، الهنيئة ، الوديعة ، الطافحة بشراً وفرحاً وصحة ومتانة . والذي لا يعرف حياة القرية ، بأصالتها ، وعمقهــا ، وزخورها ، لا يعرف وجهاً أصـلـّياً خلاّقاً من أوجه لبنان . وأكاد أقول لا يعرف لبنان .
حياة القرية لا تـُفهم وتـُقدر إلاّ بخلفية العيش والطبيعة . ابن القرية يعيش بالطبيعة وعليها ، بقدر ما يعيش في مجتمع مكنكن صاخب بالقِيَـم والأعراف الانسانية . فإذا جـّردت ابن القرية عن الطبيعة الملتحم بها ، جردته عن نفسه . فلكي تفهم ممـّزات لبنان التي تجعل منه كيـاناً خاصـّاً عليك أن تتذكر خلفـّيته الطبيعية والعيشية .
تذكر الزيتونة ، والتينة ، والعريشة ، والسنديانة ، واللوزة ، والزعرورة ، والزنزلختة ، والصنوبرة ، والأرزة ، والخرُوبة ، والمـَيسة .
تذكر الخوخة ، والليمونة ، والتفاحة ، والمشمشة ، والنجاصة ، والـدّراقة ، والقراصية ، والصَّبيرة .
تذكر الزعتر ، والزوباع ، والزعفران ، والكعلول ، والجليبينة ، والفريك ، واللوز الأخضر.
تذكر العلـّيقة ، واللزيقة ، والطيّـونة ، والبـلاّنة ، والشربينة .
تذكر الياسمينة ، والوردة ، والبنفسجة ، والنعنعة ، والفلـّة ، والقرنفلة .
تذكر الداّبة ، والحمار ، والفرس ، والمهر ، والبغل .
تذكر الغنمة ، والمعزاية ، والبقرة ، والخروف ، والدجاجة ، والصيصان .
تذكر الزبيب ، والدبس ، والتين ، والمشمش ، والتين بسكـّر ، والقمح المغلي .
تذكر الكبة ن والمحشي ، والمجدّرة ، واللوبية ، والبيتنجان ، والبامية ، والرزّ ، والبرغل ، واللحم المشويّ ، والقصبة ، والفرّوج بتوم .
تذكر اللبن ، واللبنة ، والجبنة بالزكرة ، والجبنة بالضرف ، والزيتون ، والزعتر بزيت ، والبيض المقلي بالزيت مع البصل .
تذكر العـرق والمـازة .
تذكر البرق ، والرعد ، والثلج ، والبرد ، وزخـّة المطر ، وماروط الشتاء .
تذكر الشلهوبة ، والشرقية ، والشمس الحـادة .
تذكر ” نَسَّـمْ يا هوا الغربي الحنـونا ! “
تذكر خرير الوادي ، وخرير الشلاّل ، وضوء القمر عالبيادر ، وضوء القمر عالسطح ، والسيران عالساقية ، والكزدار عَطَريق العين .
تذكر السهرة ، ولعب الورق ، وكانون النار ، وشوي الكستنة ، وشوي البلّوط .
تذكر الخيمة عالسطح ، والعرزال بالسنديانة ، وصياح الديك الباكر .
تذكر أجراس الكنائس تنقل دقّها الفرح ، ودقَّها الحزين من ضيعة إلى ضيعة عبر الهضاب والبطاح .
تذكر رائحة التراب اثر الشتوة الأولى .
هذه بعض الخلفيّـات الطبيعية والعيشيّة التي لولاها لما وُجد خـُلق لبناني متين عنى شيئـاً للعالم ، ولما كانت شكيمة لبنانية أنوفة مثـّلت دوراً خلاّقاً متواضعـاً .
بالقرية وحياة القرية، إذن ، يتميـّز لبنان تميـُّزاً تامـّاً عن غيره ، وبدون القرية وحياتها لا يوجد لبنان .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.