مغاور الزمــرد والياقـــوت
فؤاد سليمان
… حكاية رائعة، قصّها هذا البحر، مرة لبحار من هذه الشطوط في عودته من الجزر البعيدة يوم عاد مع المدّ… عن صبايا حلوات خلف البحر، يحرسن مغاور الزمرد والياقوت المرصودة … ما رأت مثلها عين بعد، ولا سمعت بمثلها أذن في الأرض !!
كنوز كنوز، رصدتها في البحار، صبيات حسان، يفكها بحار شرقي من أرض لبنان.
وله بعد ذلك، جبال من الزمرد والياقوت، جبال مكدّسة، يحملها في عودة البحر الى لبنان، ويحمل معه الصبيات الحلوات، حارسات الكنوز المرصودة في البحر !!
وفي ليلة، هبط من الجبال شبابها، خلف الحكاية الحلوة، والحكاية على البحر تمتّد وتمتّد وتستطيل حروفها، فاذا كل حرف فيها جنّية تضرب البحر بعصاها السحرية، فينشقّ البحر عن مغاور وجبال، من الأكداس المكدسة، من خيرات البحار المرصودة.. ذهب فوق ذهب، ذهب من تراب، تراب من ذهب.. أكداس أكداس فوق بعضها البعض…
كنوز كنوز، رصدتها في البحار صبيات حسان، يفكها بحار مشرقي من أرض لبنان!!
– الى أين يا وديعتي الثمينة الى أين ؟ !
خليك على قلبي… ادفء شيخوختي في ربيع شبابك، ويدفأ قلبي في عينيك.
بالدموع ربيت شبابك…
الى أين يا كنزي الغالي الى أين ؟!
– في البحر يا أمّاه حكاية رائعة.. جبال من اليواقيت، مرصودة على وجهي، في غد أعود الى قلبك
ومعي أكداس منها، ومعي صبيات حلوات !!
*
_ الى أين يا فلاح الخير، يا دافق البركات في صدري. الى أين ؟
ترابي خيّر حنون.. وكرمي معطاء جواد !!
والأرض، أرضك، سخية، لا يشحّ صدرها، فلم يشحّ صدرك أنت من المحبة يا فلاح الخير. ؟ !
– في البحر يا أرض، في البحر، حكاية رائعة، جبال من اليواقيت مرصودة على وجهي… كروم من
الزمرّد، معلقة فيها العناقيد.. غداً أعود بالتراب الذهبي الى ترابك… غداً أعود بعناقيد الزمرد فاعلقها في دواليك…
في البحر يا أرض، في البحر…!!
وتقفز الليالي…
مواقد النار في الثلوج، باردة حتى الصقيع، تنطفىء الجمرات فيها، على كفّ شيخة وشيخ، يبست فيهما العروق… وحيدين وحيدين…
الاّ من الصورة المعلقة في الحيط، وهذه الرسالة تنام تحت المخدّة، فيها ريحة ولد ضاع في البحر.
الساحات في القرى، مقفرة، يموت فيها شعاع الشمس الدافيء وحده فلا يطلع على زند مفتول.
عناقيد العنب في الكروم، يابسة على اماّتها، جلدة ممصوصة لا يتشهاها فم ولا تطلع في بال.
جرس الكنيسة الكبير في العيد، محني الرأس، كئيب لا يدق دقاته !! فقد قطع الشباب حباله وراحوا…
أنوال الحرير، في الدار، يغص فيها الغناء، فلا يطلع في بالها الا الندب !!
دودة القز، تموت من ا لجوع فالأرض لا تطلع ورقة توت بعد..!!
بيادر القمح، تنوس فيها الحياة، على بقرات عجفاء وحبات عجفاء، لا تشبع عصفور الدار الحبيب.
بيوت القرميد الحمراء معتمة تعيش في ظلام الوحشة وظلمة الهجران.. على قرميدها الأحمر، غراب… وفي شبابيكها المخلّعة بومة.
الدروب، لا بحة فيها ولا فيها غنة فتى قوي يموج بالحب في عودة العشيات الى بيت الحبيبة.
البنيات الصبايا مكسورات على الشبابيك عيونهن في البحر وراء الحكاية.
متى يعود حبيبي ؟ متى يعود أخي… متى… متى !!
ما غصت في الأرض أم مثلما غصت امهات شباب بلادي ترمي بهم على كفّ العفاريت على الموج، خلف الشمس على البحار السبعة، حيث لا تصل عين…
رباه ! رباه ! من علّم الناس في هذه الأرض حروف تلك الحكاية، فاذا بها في ساعة من الزمن مأساة مصبغّة بالدم والدموع، مأساة طويلة من الآلآم لا أول لها ولا آخر… ولا تنتهي… بلى أولها هنا في هذه الشطوط، وآخرها هناك في “مغاور الزمرد والياقوت “.
ليتها ظلت في الحكايات اسطورة، يتلهى بها شباب الجبال على مواقد النار في الثلوج، ويعنيها رعيان السهول خلف قطعانهم في المراعي.
ولكنها في الحكايات أكذوبة رائعة، قصّها البحر مرة لبحارة من هنا، أكذوبة عميقة كبيرة من أكاذيب هذا البحر العميق الكبير !!
ليت الخشبة اللبنانية الأولى التي خشّت في البحر، تكسرت في عب البحر في الريح والموج، ولم تسمع أمواجه خشيش ضلوعها !!
ليت دربك يا بحر، لم تكن علينا، فقد عمرنا على دروبك قصوراً مذّهبة القباب، فابتلعت أمواجك قصورنا وأكواخنا… ولم يبق لنا الا هذه الآفاق البعيدة، ننظر اليها، لعل فيها زورقاً يعود لنا بحبيب، من مغاور الزمرد واليواقيت !!
ردّهم يا بحر، ردهم من هذه الغربة الطويلة المريرة ! ردّهم من مجاهل الغابات، فقد يبست جلودهم من وهج الحرّ ووخز البرد. وتفسخت أرجلهم من المشي في الليل والنهار، وانسلخت أكتافهم، وانحفرت فيها سلخات عميقة في اللحم.
ردّهم من مناجم الفحم، من أنفاق الأرض، من السراديب، فقد اسودّت ضمائرهم وقلوبهم ووجوههم، وجعدّت الآلآم جباههم.
ردّهم يا بحر، فامواجك التي تزور الشواطيء كلها، تعرف انهم انما يحفرون قبورهم وهم يحفرون عن مغاور الزمرد والياقوت !!
لقد رأتهم أمواجك في جميع شواطىء الأرض، هزالى، تصفّر زنودهم… تأكلهم الفابات السوداء، يصطادهم عبيد الليل، ممصوصين من الآلام والتعب… يطردهم الهم من باب الى باب، وخلف كل باب، يحسبون أنهم واجدون، تلك الحكاية الرائعة، تلك الأكذوبة الرائعة من أكاذيبك يا بحر !!
ردّهم يا بحر، ردّهم الى نور الشمس في بلادهم… الى حقول الزهر في قراهم… الى الينابيع الصافية يعبّون فيها الصحة والعافية…
الى الكروم التي هجروها فهجرتها البركات والخيرات… الى البيوت التي عمّروها على التلال والسفوح… وراحوا…
الى أرضهم يا بحر ردّهم، فأرضهم فيها الكنوز المرصودة. أرضهم فيها الزمرد والياقوت والعقيق والمرجان وحبّات الذهب، وبركات السماء كلها في أرضهم.
وفي عودتك اليهم، قل لهم أنك كذبت عليهم واستغفرهم يا بحر…
قل لهم : ان المغاور التي حدثّتهم عنها، مغاور للثعابين والافاعي، مرصودة من الجان والعفاريت
فيها برك من الدماء، وبرك من اللهيب.
واضرب يا بحر بينك وبين الذين ما برحوا هنا يغامرون بشبابهم وراء الحكاية… اضرب بينك وبينهم سوراً من حديد، فلا يجتازه بعد اليوم زورق يضرب في اليمّ على اسم الكنوز المرصودة.
*
… أمس … ودّعت أنا أحباء من ضيعتي، راحوا وراء الحكاية الرائعة، الى جبال ” الزمرّد والياقوت “.
فليت دربك يا بحر لم تكن علينا…
آذار 1949
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.