من روائع الادب اللبناني ” فؤاد سليمان” … مقتطفات من كتاب درب القمر

فؤاد سليمان 1911-1951

ولد في بلدة “فيع” من الكورة، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة ” دير البلمند” ، ثم تخرج من كلية “الفرير” في طرابلس.
درّس الأدب العربي في المعهد الشرقي، في جامعة القديس يوسف في بيروت، وعلّم في الكلية الثانوية العامة في الجامعة الأميركية في بيروت ثلاثة عشر عاماً، وتولى رئاسة تحرير مجلة ” صوت المرأة ” لمدة عامين، وكان من المؤسسين لجمعية ” أهل القلم ” في لبنان.
من كتبه: “تموزيات” و “أغاني تموز” و”درب القمر” والقناديل الحمراء”.

******************************

فؤاد سليمان

مقتطفات من كتاب “درب القمر”

العنقـــود الأخيـــر

كان عندنا، في بلاد الجبل، أشياء حلوة ثمينة… لم نكن نعرف قيمتها، حتى انطفأت وراحت، وراحت معها الحياة الخيّرة في بلاد الجبل.

وما يدري أحد هل يعود الخير الى الجبل اللبناني ؟

وهل تعود السعادة ؟

*

أثمن ما كان عندنا، شيوخنا المباركون… حقاً كان هؤلاء بركة في حياتنا… لا الجوع عرفناه في أيامهم ولا العري.

كانت صناديقنا ملأى بالحبوب وبجميع خيرات الأرض.

وكانت خزائننا الكبيرة مكدّسة بأثواب الحرير.

وكانت الأرض سخية في أيامهم، وقلوبهم سخية في محبة الأرض.. وأيديهم لا تعرف غير العطاء..هم يعطون واللّه يملأ بطن الأرض بالخيرات ويعطيهم…

فيضي يا أرض، فيضي واملأي البيوت قمحاً ودبساً وعسلاً وخمراً وزيتاً وزيتوناً….

*

هل أقص عليكم حكاية أولئك المباركين ؟ ! ومن في الناس، لا يعرف حكايتهم…حكاية البركة…

لولاهم لما نبت في أرض لبنان دالية خضراء، ولا شجرة زيتون، ولا شجرة توت… لولاهم، لظلت أرض لبنان صخراً ووعراً، لا يطلع فيها غير الشوك…!!
*

هؤلاء راحوا…لم يبق منهم في بلاد الجبل، غير السكة المكسورة والمعول المهجور…
*

….والفلاح الأخير في ضيعتي مات من سنة…بعده لم يبق في ضيعتي فلاحون أقوياء، يشدّون السكة في تراب الأرض اليابس، فتغرز السكة الى العمق، تحت الأكف الغليظة…

كان فلاحاً أصيلاً، تعمقّت جذوره في الأرض، فامتدت الأرض الى كل شريان فيه.

*

ولم يره طلوع ضوء الا هناك، مع الأرض، يقطف أو يزرع أو يغرس أو يقطع…. ولا لفّه ليل الا على تراب في حقل، تحت عريشة أو تحت سنديانة…

*

كان قوياً، عالياً كالسنديانة، مخيفاً كشبح، في صوته نبرات، ما نعرفها في ضيعتنا الا في الحكايات… كان صوته يمتدّ في الليل والنهار، من فوق الاودية عندنا، فيترّدد صداه في جوانب القرية…

وكانت الضيعة كلها حينما تسمع صوته، تقدّر أن فماً قد امتدّ الى أغراس أبي وهيب في مكان ما…

وعاش كثيراً حتى شبع من العمر، ولم تنحن قامته ولا التوى عوده ولا جفّ صوته، ولا كلّت يداه ولا تعبت رجلاه.

ومات شبعان من العمر ومن الخير.. أما العمر، فكان يقول لنا دائما : أنا عشت عمري عمرين، عشت عمري في النهار، وعشت عمراً آخر في الليل.

وأما الخير فقد ورث منه القليل عن آبائه، وقد أورث منه الكثير لأبنائه…

لم يكن في كروم العنب في ضيعتنا، مثل ما عند أبي وهيب… العناقيد في كرومه أشكال أشكال، عناقيد سمينة مليئة، تتدلى ثريات من ذهب، من فضة، من بلور، من عقيق، في دوال ممشوقة عالية خضراء، دائما مثقلة، ليس فيها عنقود واحد ممصوص ضعيف… وكأن كرومه بين الكروم وحدها من ذوات الدلال في الضيعة…

*

وحتى عصافير كرومه، كانت غريبة بين عصافير الكروم.. ما ينقطع العصفور منها، حتى ينقطع العنقود عن أمه، وعناقيد أبي وهيب لا تنقطع الا في أول الشتاء… وصيادو العصافير في الضيعة يموتون على عصافير كرومه، السمينة.

*

جرؤت مرة على كرومه وعصافيره وقلما جرؤ أحد في الضيعة عليه.. كان بيني وبينه قرابة جرأتني على ذلك… وكانت رغبتي في العصافير أكثر منها في العناقيد… وما أن أطلقت الطلقة الاولى، حتى دوّى في الغابة صوت رعاد : عصافيري أربيها للناس …؟ ! .. مين أنت يا ولد… وسمعت وقع خطواته تقترب مني.

شددت قلبي وقلت : ألقاه باللين والمداورة… ووقف بجانبي فخيّم ظله الكبير عليّ… كانت قامته تطاول ” البطمة ” التي أنا تحتها.

ولما عرفني اطمأن باله… عرف انني ضيف على الضيعة، صياد غاو هاو، اجيء الكروم في غير العصفور والعنقود. وقلما أصيب عنقوداً أو أصيب عصفوراً.

وابتسم وقال لي ” خمّنتك من هؤلاء الملاعين، يخربون الكروم، فلا يصيبون غير العناقيد… فاطمأن قلبي للهجته ورحت اداوره بالحديث.

تغويني كرومك يا عمي، وتغويني عصافيرك. اجيء كرومك اتملى من عناقيدها المشرقة، ما أرى مثلها في الكروم… فاذا كرمك أخضر مليء بالعناقيد، وكرمنا يابس عناقيده ممصوصة، لا يطلع في بالي لا عنقود كرمنا، ولا العصافير التي فيه.

*

فأشرق وجههه وشاعت على جبينه فرحة، وفرك يديه، وجلس بجانبي تحت البطمة، وحدثني ساعات طوالاً عن حكاية حياته التي هي حكاية الأرض، في ضيعتنا، لا بل هي حكاية الأرض في كل ضيع لبنان…

حدّثني عن الصخور التي صارت تراباً والتراب الذي صار كروماً من عنب هنا، وكروماً من زيتون هناك.

قال : اسمع، انت لا تذكر شيئاً… لم تكن بعد قد ولدت… كان هذا الكرم الذي تراه هكذا، صخراً وغاباً… ورثته عن والدي صخراً وغاباً… وأورثني والدي كثيراً من الصخور… أنا حوّلت الصخور الى بيوت، وحوّلت الغاب الى كروم… لا تسألني كيف عملت وكم عملت… عمري كله قضيته هنا… وفينا للأرض يا بني فوفت الأرض لنا… أعطيناها شبابنا، صحيح، اننا ما نعمنا كما تنعمون، ولا أكلنا كما تأكلون، ولا نمنا كما تنامون… ولكننا لن نخشى أن نجوع كما تخشون…

وهزني في كتفي : ستجوعون… أنتم في طريق الجوع… تفتشون عن القرش الفايش، قرش الوظيفة فايش يا أولاد… يأتي من هنا، ويذهب كأنه ما جاء…

ماذا فعلت لك وظيفتك في المدينة ؟ هذه كرومكم يابسة… اغرسوا فيها غرسة من قرش الوظيفة اذا قدرتم ! … لن تقدروا…

قرش الأرض وحده الذي يبقى…

*

منذ عام مات الفلاح اللبناني الأخير في ضيعتي، وفي هذا الصيف قال لي أولاده الثلاثة واقسموا أنهم لم يشبعوا من العنب، ولا شبعوا من القمح، فقد يبست العناقيد على امهاتها، ولم تشبع بقراتهم، فقد يبس الورق مع العناقيد…

قالوا : انها دودة نخرت أشجار العنب في الضيعة في هذا الموسم. وقالوا : ان السماء كانت بخيلة بالمطر في هذا العام… ولم يقولوا : ان يد الخير في ضيعتي قد تحّولت الى يد بطالة.

*

وعمّروا لنا، في ما عمّروا من البركات، بيوتاً للايمان، في كل حارة من حارات الضيعة بيت للّه.. عمرّوها بالايمان للايمان، ليبقى الايمان فينا ما بقيت بيوت اللّه عندنا… ما انفقوا فيها قرشاً من أموال الشيطان.. تكاتفوا وتساندوا وعملوا في النهار، وفي ضوء القمر، وعملت المحبة معهم. كانوا مع اللّه، فكان اللّه معهم.. ورفعوا بيوت اللّه عالية، بالمحبة… وسمعت جدران تلك الكنائس تلك الأصوات الغليظة ترتفع بالصلاة الى اللّه، وبالشكر، وتلك الأيدي المباركة تبتهل الى اللّه…

وفي هذا الصيف عدت الى ضيعتي، فاذا واحد من هذه البيوت المقدسة ينهار على نفسه، لو لم يتداركه رجل في المهجر، من أولئك المباركين أنفسهم، عمّره مرة ثانية، واذا اثنان مهجوران، الا من أيقونات عفنات مهترئة، وكتب مخلعة، محت الرطوبة حروفها المقدسة، وجدران معتمة صماء، لا تسمع صوتاً يتردد باسم اللّه…

ان اللّه راح من ضيعتي يوم راح المباركون، وما أدري متى يعود اللّه الى ضيعتي ؟؟

*

وحفر لنا أولئك المباركون، في الصخر عيناً من الماء.. فاض ماؤها نقياً صافياً. حسدتنا القرى على العين التي لا تنضب.. وشربنا منها وترحمنا عليهم. لولاهم لمتنا من العطش.. ولكن العين، من يومها، وهي على ما هي… لا ضرب فيها معول، ولا نزلت في الأرض شبراً. والقرية، بحمد اللّه، تكثر وتكثر..

وأمس سمعتنا القرية نتصايح ونتشاور :

ما في العين ماء.. وتشاورنا وتصايحنا، والعين تجف، ودربها لا تصل اليها حوافر الدواب…

*

تسألني : وماذا عندكم من الخير في ضيعتكم بعد ؟؟

عندنا ضوء القمر والنجوم… نعمة من السماء، لا يد فيها ولا منى لأحد منا…

وعندنا من الخير، هذه المقبرة التي يرقد فيها أولئك المباركون الأتقياء.

تشرين الأول 1951

درب القمـــــر

…. دروبنا في الجبل حكايات …

واحدة للجرار الحمر، في عياقة النقلة، تحط في الأرض، أو لا تحط.

وللخدود الحمر، بلون التفاح الشهي، ان شئت، أو في مثل ألوان الشروق، حين ينسرب الضوء، من وراء جبالنا العالية،،

وواحدة للغناء والحداء، في دغشة الغياب، يعود فيها شبابنا، خطى بطيئة الى الدفء والعافية.

وواحدة للعناقيد، في الكروم

وواحدة للقمر… كأن القمر لا يطلع الا فيها…

كانت حكاية الحكايات في القرية..

وكانت للحب…

ترى… ؟ أبعدها للحب ؟

أم أن الحب مات في دروب ضيعتنا، التي على التلة البيضاء . ؟

وبعدها للقمر، يا ترى ؟ أم أن القمر حوّل دربه عنها. ؟

كانت مسكبة من ورد… وحبلأً من حرير يروح ويجيء، ولا ينقطع الا حين تنقطع حبال الليل.

لا بل كانت خصلة من القمر، نشدّها الى الارض بالاهداب.

*

… وفي الدرب عندنا، نلمح الصبية الحلوة في شبابيك بيتها، تمسح البلور بالبلور، أو تشمّ أطباق الحبق في الشرفة، بأنف حلو يعرف الشم. أو تنفّض الحصير الاسمر، ليوم العيد.

فترد الحلوة علينا شباكها، أو تغل رأسها في طبق الحبق، أو يهوي الحصير الاسمر من يدها، فلا يبقى في يدها الا العصا. تهول بها علينا.

وتظل الدرب تمشي بنا عودة وذهاباً، عسى أن تعود صاحبة اليد البلورية الى شباكها.

*

…. ولوّحت لي، مرة، من فوق الدرب، من تحت شبابيك بيتهم الغربية.

وكانت في ما أذكر،

بلون الزهر، وفي عمر القمر.

أيدها النقية الشهية لوّحت ؟

أم عيناها اللتان، ما أعرف لونهما حتى اليوم ؟

في البيت عندنا، من يقول : انهما بلون العسل، ومن يقول بلون النبيذ…

وأنا لليوم ما أعرف لون عينيها !..

أم ترى، فستانها الزهري، لوّح لي، من فوق، من تحت شبابيك بيتهم.

يومها، عرفت ” درب القمر ” في ضيعتنا. كانت الدرب من قبل طريقاً تؤدي الى البيت، الى احضان أمي، في عودتي من عند جدتي، في الضيعة المجاورة…

فصارت الدرب يومذاك، يوم لوّحت لي من فوق، شيئاً لا أول له ولا آخر.

شيء مربوط الى قلبي.

كل حجر فيها مشدود الى هدبيّ.

…. ومرمرت حجارتها بفمي، حجراً حجراً فما بقي فيها حجر، الا ومسحّت جبهتي الف مرة فيه.

وما هناك صخرة، الا وحفرت قلبي في عروقها.

وما غاب قمر، في ضيعتنا في تلك السنين، الا من هناك.

ولا طلع قمر، الا من بيتها الغربي، الذي كان فوق الدرب..

وكرّ بعدي، فتيان القرية، يلوحون للصبايا في الشبابيك ويطلعون قمراً، ويغيبون قمراً.

وراحوا يحفرون قلوبهم في الصخور…

ولكنّ الحلوة، حلوتي التي كان القمر يطلع من بيتها، لم تلوّح في الناس لغيري، ولم يلوّح قلبي لغيرها على تلك الدرب..

*

وكرّت الحكايات البريئة، في درب القمر، في ضيعتنا.

وكأن ” العين” الشحيحة، تحت الدرب، أصبحت في ضيعتنا نهراً، فالجرار الحمر على الاكتاف، في جيئة ورواح، في ضوء القمر…

وكأن العين لا تفور الا في القمر وييبس الماء فيها في الشمس.

ولم تعد جرة، في ما أذكر، وتذكر الجرار الحمر، الا مليئة بالماء المطيّب، وفي فمها وردة حمراء، أو قضيب زنبق أو خصلة من حبق.

من أين يجيء الطيب، الى تلك الجرار الصغيرة الحمراء؟.

من أين يجيء الماء، الى تلك العين الشحيحة النزازة.؟

حكاية لا يعرفها الا ” العين ” والوادي البيضاء، والدرب التي فوق العين والوادي..ونحن.

*

وماذا بعد، عن درب القمر في ضيعتنا ؟

لو رأيتها أنت، لعرفت كيف يعيش القمر عندنا فيها، من أول الليل الى آخر الليل.

من الجبل الى البحر… مدة واحدة من الالوان والظلال.

يمرمر الصخر رخاماً…

ويكسّر التراب ذهباً…

التراب الابيض في وادينا، يتفتت ذهباً، أو فضة بلون الذهب…

من يعرف الفضة التي بلون الذهب ؟

لو رأيتها أنت… لعرفت كيف تتواكب الظلال والاضواء والالوان والعتمات، والاشباح، في الانحناءات، من سلسال الى سلسال، من قمة الى قمة، من وهدة الى وهدة… تنشلح هنا وتنلم هناك، وكأن أصابع الجن تلمسها وترخيها..

*

” درب القمر “… حفيت شفاه القمر فيها…

وحفيت حجارتها من خطاه، كأن لم يعرف في الدروب غيرها، في نزهة الليل التي اعتادها.

*

مررت فيها امس، في الليل، فاذا هي مرآة أخرى تنطفىء لا ينبت غير الحجارة ترابها.

ترابها كله تراب.

والبيت الذي فوقها ، سكرّت شبابيكه.

راح أهله ولم يعودوا حتى اليوم.

مرآة أخرى تنطفيء في ضيعتي.

والحلوة التي لوّحت لي مرة من تحت الشبابيك، خبأت فساتينها الزهرية في خزانتها..

وهذا القمر، ما يزال يطلع في الدرب، كئيباً ممروراً… في أرض جديبة.. وحده…

الى أين راح الحب من ضيعتنا ؟

كان في نفسي أن أعمّر للقمر والنجوم، وللحب ولحبيبي هناك، قصراً من عروق الرخام النقي…

أحمل اليه مساكب الورد من بلاد فارس، وعرائش الياسمين من الجزر البعيدة.

وأطياب الهند وبلاد العرب، ومجامر البخور وحباّت المسك، وأعيش هناك مع القمر والنجوم والحب وحبيبي..

تشرين الثاني 1949

3 thoughts on “من روائع الادب اللبناني ” فؤاد سليمان” … مقتطفات من كتاب درب القمر

أضف تعليق