مأخوذة من كتاب ” لبنان في ذاته“
يوم عانى لبنان ما عاناه في الامم المتحدة لاثبات كرامة الانسان، وحقوقه ، وحرياته الأساسية، في الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، بصيغته الفريدة الرائعة ، كانت اعماق الوجود اللبناني هي التي تنطق بافواه ممثليه. أن قصة هذه المعاناة لم تكتب بعد ، وهي ، في خفاياها وأسرارها الكيانية، لن تكتب ابداً.
يبدأ الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما يلي : ” أما وان الاعتراف بكرامة الانسان المتأصلة في كيان أعضاء الأسرة البشرية جميعاً ، وبحقوقهم المتساوية ، التي لا انتزاع لها عنهم ، انما هو أساس الحرية والعدل والسلم في العالم…”
وتقول مادته الأولى : ” يولد البشر كلهم أحراراً ، متساوين ،في الكرامة وفي الحقوق ، وقد وهبوا عقلاً وضميراً ، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء .”
والحق انه لولا هذه الكرامة وهذه الحقوق ، ولولا هذه الحرية وهذه الاخاء ، ولولا هذا العقل وهذا الضمير، لما كان لبنان ، ولا تمكن أن يتحدى الازمنة والعصور حياة وديمومة .
هذا هو الذي قلناه ، وأعلناه ، وسجلناه أمام العالم بأسره ، مراراً ، وهذا ما عملنا على تجسيده أخيراً في هذا النصوص . وأؤكد لكم ان احتفال العالم كل عام ، في العاشر من كانون الأول ، بذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو احتفال بعيد لبنان. العالم بأسره يعرف الصنيع اللبناني ، ويشهد له في هذا اليوم ، ونحن لم نجعله بعد ، مع الأسف ، في طليعة أعيادنا الوطنية الرسمية.
أعود الى الحرية والاحترام ، فأقول :
الحرية ليست فكرة أو عاطفة أو خيالاً. بل أن الحرية ليست أي شيء ، ما لم تتجسد في الاحرار، الحرية هي الانسان الكائن الحر. والانسان الحر المسؤول هوأعظم وأهم مؤسسة في التراث اللبناني.
ففي قمة التراث اللبناني يوجد الانسان الحر ، ان هو وجد بالفعل .
الحر لا يكذب ولا ينافق.
الحر يعرف فضيلة الصمت.
الحر لا يُغلب على أمره غوغائياً ، ولا طموحياً ، ولا شهوانياً ، اما شهوة الحكم والتسلط فأبعد ما تكون عنه.
الحقد والنكاية ، والبغضاء والنميمة ، وصغار النفس ، والدس والتآمر في الظلام ، كل هذه يفهمها الأحرار تماماً حين تمر بهم ، لكنهم يمرون دون ان تترك فيهم أي أثر.
الحر يخلق في كل لحظة – يخلق نفسه حراً .
الأحرار يقسون على أنفسهم حتى يتفجر الخلق فيهم تفجيراً .
همهم ان يرتفعوا الى ملأ الإشراف والخلق ، وفي فعل الخلق ان يوجدوا .
وهم اذ يرمقون لحظة الخلق بصبر وطول أناة ، يخلقون ان هي جاءت ، وان هي لم تجيء ، يسجدون ويصلون .
الأحرار يقبلون الصلب ، وفي اليوم الثالث يقومون.
الأحرار لا يسألون عن الموت ، ولا يهابون الحياة . يرحبون بالموت ، إذا كان فيه الحياة ، واذا اقتضت الحياة الحرة الشريفة موتاً ، فانهم يحيونها .
همهم ان يبقوا هم الأسياد ، ليس على الآخرين ، بل على كل ظلام وخسة في نفوسهم .
هل يضبطون أفكارهم ، هل ينظمون تخيلاتهم ، هل يكبحون جماح عواطفهم ، هل يلجمون ألسنتهم ، هل يتحملون آلامهم ، هل يقبلون أقدارهم ، هل بنتقدون أنفسهم – تلك هموم الأحرار .
الماضي لا يكبلهم الا بمقدار ما يكونون تائبين . والتوبة الصادقة تحررهم حتى من الماضي . تحررهم لأنها لا تنبع منهم .تحررهم لأنها من لدن الله .
يقتنصون الوجود لأن الوجود وجدهم قبل أن يجدوه . وجدهم وتربع فيهم ، واستقر ، واستوى .
الأحرار لا يحللون ، ويمحصون ، ويرفضون – الأحرار يعجبون ويحبون .
الأحرار يقرون بالأفضال ، ويعترفون بالمصادر . الأحرار يُعلنون الى من هم مدينون .
الحر يعرف تماماً ان الوجود لا يتوقف عليه ، بل على العكس ، يعرف ويقر ان وجوده هو يتوقف على الوجود الحقيقي الموجود .
الأحرار يعيشون في العالم ، لكنهم ليسوا من هذا العالم . الحرية قبس متعال آت من فوق .
الأحرار يقرون بما هو فوق ، ويعترفون بمن هم متكلون عليه ، ولذلك هم أحرار .
الأحرار يعيشون ، ويونعون مع الأحرار ، دون أن ينسخ بعضهم بعضاً ، واذا كان حر ما نسخة تامة طبق الاصل عن اي حر آخر ، فهو عبد .
انها الصداقة ، والمشاركة ، والمحبة ، التي تعزز الحرية في الأحرار .
يفتش الأحرار عن الأحرار في كل زاوية من زوايا الكون ، في الزمان وفي المكان ، وحين يجد بعضهم بعضاً ، أياً كانت فوارق اللغة ، والعصر ، والتراث ، والجنس ، والدين ، فكأنهم وجدوا الله في وجوههم .
الوجود كله يحصر في النهاية في الانسان الشخص الكائن الحر . وكل تراث لا ينهض على أحرار ، ولا يخلق أحراراً ، هو تراث عقيم . الانسان الشخص الحر الكائن هو مؤسسة التراث الأولى ، وكل مؤسسة أخرى انما تنحدر منه ، وتؤول اليه . هو أمل الوجود ، وهو قبلة المستقبل . هو الذي يبرر كل ثقافة وكل تراث . وما لم تتمكن مؤسساتنا من خلق الانسان الشخص المسؤول ، فباطل التبجح بالحرية ، وعبث القول بالتراث .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.