بقلم جوزف إليان
كتب جواد بولس التاريخ تاركاً وراءه المؤرّخين القدامى ، واضعاً منهجيّةً علميّة جديدة خاصة به، للكتابة التاريخيّة ، اعتمدها في كل ما كتب .
حتى إنّه احتلّ مكانةً عالميّة مرموقة الى جانب كبار المؤرخين أمثال ميشلي و غروسي و موسكاتي و بيريت و بنفيل ، و غيرهم من الائمة في كتابة التاريخ .
تشمل مادة التاريخ عند جواد بولس الاحداث الواقعيّة الماضية التي أمكنه منحها تصديقه الكامل غير المتحفّظ . إنه اعتبر أن ” التاريخ ” علم المجتمعات البشرية ، و فهمها من النواحي الحضارية و السياسيّة و العسكرية و الاجتماعية و الاقتصادية ، و أنَّ هذه المجتمعات مرتبطة ببيئة جغرافية معينة ، تعيش و تتحرك و تتفاعل في زمن معين ، و لها أيضاً لغة معيّنة ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً كما أنّ لهذه المجتمعات ، مهما غُصنا في بحر الزمن ، نظام حكم و قيّمين عليها يشرفون على رعاية شؤونها وسياستها.
من هذه المعطيات أو الثوابت أطلق جواد بولس مقولته ” إن السياسة هي بنت التاريخ ، و التاريخ ابن الجغرافيا و الجغرافيا لا تتغيّر نسبيًّا ” . نعم ، من هذه
المقولة انطلق جواد بولس لكتابة التاريخ .و من أقواله : ” المناخ و الارض و التربة و الاغذية ، تعمل كلها معاً لتمارس تأثيراً فيزيائيًّا – نفسانيًّا ، مباشرة منظر البيئة الطبيعي ينعكس بطريقة لا شعورية على طبيعة الانسان . . . فطريقة الحياة التي تفرضها البيئة ، تؤثر في تكوين الطبائع . فالبيئة اذاً تعمل تاريخيًّا ”
ثم إن الموقع الجغرافي يدعو الجماعات الى التحرّك ، أو على العكس يحدّد لها مكان التحرّك فالبيئة اذن محرك تاريخي ” ، هذا و إنًّ المناخ قد يعزز نشاط الانسان . . . ان الارض تؤثّر على انتاج الثروات و توزيعها و من ثمًّ تكوين طبقات المجتمع و على اتساع المؤسسات الساسية . . . ”
على المؤرّخ ، من الناحية الزمنية ، أن يدرك العالم من الماضي و من خلاله . يستحيل على الانسان استرجاع اللحظة التي مرت ، اذ ما إن تكتمل عناصر الحدث حتى يصبح من الماضي . فالتاريخ يكمن في الماضي ، إنه ذاكرة جماعية . فكل عمل بشري يستند الى حدث الماضي .
هذا ما آمن به و اعتمد جواد بولس في كتابه التاريخ ، فكان أنْ غاص في الماضي و استنطقه بدقة و استوعب أحداثه و أدرك أن المؤرّخ الحقيقي لا يستطيع تتبع الماضي إلا من خلال تجاربه الحاضرة ؟ إن التأويل التاريخي دون عودة الخبرة الحياتية الشخصية و العمل أو التفكير الشخصيّ أمر غير ممكن . إن التاريخ هو تجربةُ مؤرّخ . هنا لا مناص من القول إن جواد بولس قذ اتّبع هذا النهج الذي رسمه لنفسه ، فكان دائماً يستند الى ثقافته و اختباراته و تجاربه الواسعة في حقول المحاماة و السياسة و الاجتماع . كان يجرّب دائماً قبل ان يكتب بحثه التاريخي ، يعاصر الحدث التاريخي و يعيشه و ضميره و فكره ، فيحوله الى حدث معيوش بكل ما لهذه الكلمة من معنى و يضع من ثم صورته التاريخية فيلتقي فيه الماضي بالحاضر . و عندئذ ينتقل الى مكان الحدث و زمانه و ينغمر في البيئة التي انغمر فيها أبطاله أي ينتقل ، و إن بالخيال الى الاجواء الثقافية و السياسية الحدث ، و يعايش الاشخاص و الجماعات الذي صنعوه ، في أعرافهم و تقاليدهم و أساليب تفكيرهم و تصرفهم . و عندئذ فقط يدرك كيف كانوا ينفعلون فيقدمون أو يُحجمون . صحيح أنّ الماضي مضى إنما خلّف وراءه آثاراً و وثائق وشواهدَ ومستندات ومتحجّرات وأدوات تُعيد اليه ، و تضعنا في جوّه ، و عليها نستند في معرفة الحقيقة و تدوين وقائع التاريخ .
و من أقوال هذا المفكر العميقة أن للمؤرخ حاسةً تاريخيةً لا وجود للسياسة بدونها . ” و رجل الدولة الذي يجهلُ التاريخ يشبه طبيباً لم يذهب الى المستشفى و لا الى العيادة و لم يدرس لا الحالات و لا السوابق ” .
لقد تميّز جواد بولس بحاسة تاريخية فريدة ترتكز على ثقافة تاريخية و جغرافية و سياسية و فلسفيّة أصيلة ، و هي التي مكّنته من الابتعاد عن التخيّل و التصوّر و التخمين في كتابة التاريخ ، فانصرف الى الاسلوب التحقيقي الذي يفرضه الحسّ العلمي ، و هكذا توغّل جواد بولس في دراسة الانسان القديم حتى تلمّس منه العمق . فإنّ رجال الماضي عنده يُشبهون رجالَ اليوم ، و لا شيءَ يبدّل طريقة تفكيرهم في الشعور و الارادة . كما أنه درس النفسَ البشرية ، بما فيها من نوازعَ و أهواء و هي مادة التاريخ الحقيقي . و انطلاقاً من هذه المبادئ التي اعتمدها المؤرّخ جواد بولس لم يكتف بتدوين الاحداث و الوقائع التاريخية و بيان أسبابها و نتائجها و إمكانية حدوثها مرة أخرى ، بل انطلق منها بعقله النيّر ، و حاسته التاريخية و ثاقب نظرته و روحه العلمية ، الى إنارة الحاضر بها ، و إعطاء المستقبل طرائق الاستشراف و الادراك و الافادة من الايجابيات التاريخية ، و عدم الاخذ بالسلبيات و تحاشي الاخطاء .
بهذه الروح . و على أساس هذه المبادئ كتب جواد بولس التاريخ و عالجَه كعلم و فلسفة ، فكان مدرسة السياسة الصحيحة التي على سياسيي الغد و مؤرخيه أن يتخرجوا منها .
و قد أتحف العربَ و العالمَ الغربيّ بموسوعته التاريخية القيمة الواقعة في خمسة أجزاء ” شعوب الشرق الادنى” و قد كتبها باللغة الفرنسيّة ، و مؤلّفيه : ” لبنان و البلدان المجاورة ” و” التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ” . الى جانب الابحاث و المحاضرات و المقالات و الدراسات التي كان المؤرّخون و النقّاد يستقبلونها بالاطراء اللائق بها .
هذا ، و قد عرضَ جواد بولس الاحداث بصفاء و تسلسل و وضوح ، و عالج ما يدور حولها من شؤون بموضوعيّة و روح علمية ، و سهرَ على أن تكون لغتُه في كتاباته سهلةً ممتنعة تسيلُ كالماء النمير ، مما يجعل القارئ يُكبّ عليها و يَردُها و يعبُّ منها فيدركُ الحدثَ بوضوح فينحفرُ في ذاكرته .
ها إني قلتُ شيئاً يسيراً ممّا كان يتوجب أن أقول في جواد بولس الذي لن تفيه حقّه مقالةٌ أو محاضرة أو كتاب .
هذه هي بعضُ ملامح جواد بولس المؤرخ . إنه دائماً و سيبقى أبداً أكبر من الكلمة التي تُقال فيه . ” فقد غدا رمزاً من رموز هذه الامّة العظيمة ” .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.