الرئيس الذكي

بقلم الاستاذ رائد جرجس

جرت العادة خلال السنتين الأخيرتين من كل عهد رئاسي في لبنان أن يبدأ طرح أسماء الرؤساء المحتملين والتداول في الخيارات الأخرى كالتمديد أو التجديد. ومع بدء العد العكسي لإسدال الستار على عهد الرئيس ميشال عون، وفي ظل الأوضاع الكارثية التي يعيشها اللبنانيون، من المهم التوقف عند معضلة جدية أنتجها هذا العهد وشركاؤه خلال السنوات الأربع الماضية والتي سترخي بثقلها على الرئيس المقبل للجمهورية اللبنانية.

أولاً، تتمثل هذه المعضلة بعدم قدرة “الرئيس القوي” على حد تعبير مناصريه وبعض خصومه على تحقيق أي إنجاز يذكر خلال عهده حتى الساعة. فنحن لسنا بحاجة لتعداد الأزمات المتلاحقة التي عصفت بلبنان، السياسية منها والإقتصادية والمالية والإجتماعية والأمنية. فالرئيس عون الذي أتى إلى سدة الرئاسة متكئًا على أكبر كتلة نيابية، وعلى حجم تمثيل هو الأعلى في طائفته وعلى مساندة أقوى حزب عقائدي وعسكري في لبنان (حزب الله)، لم يستطع هذا الرئيس تحقيق إصلاحات وعد بها وإنجازات انتظرها مناصروه.

ثانيًا، استطاعت قوى مشاركة في السلطة، بعضها متحالف مع الرئيس، والبعض الآخر متوافق معه حسب الظروف وحسب الحاجة (عالقِطعة)، استطاعت تمرير ما ارتأته مناسبًا من سياسات داخلية وخارجية بالإضافة طبعًا إلى المحاصصة. ففرضت هذه القوى من خلال الرئيس الحليف والشريك – الموافق أحيانًا والمعارض دون جدوى أحيانًا أخرى- فرضت أمرًا واقعًا لم يستطع موازنته لا بالمسايرة ولا بالمواجهة. أتكلم هنا عن الحزب القوي (حزب الله) وعن “الرئيس القوي”، رئيس مجلس النواب نبيه بري. فاستطاع هذا الثنائي توجيه مسار رئيس الجمهورية نحو طريق دائري يعود من حيث أتى. لذا أصبحت المعضلة واضحة: إذا لم يستطع الرئيس الذي يمثل قاعدة شعبية كبيرة والكتلة النيابية الأكبر والمتحالف مع الحزب الأقوى أن يحقق ما أعلنه – إذا أراد ذلك – فمن سيقدر من بعده؟ ومن سيتمكن في المستقبل القريب من “مواجهة” هذا الثنائي العسكري-السياسي؟ أتخيل لسان حال الرئيس بري يقول أنه تعامل مع “أصعب” رئيس للجمهورية بعد الطائف وخرج منتصرًا، فهل سيتجرأ الرئيس القادم على تجربة المجرّب؟

لقد عرف لبنان رؤساء أقوياء عديدين، فالرئيس كميل شمعون كان رئيسًا قويًا وحقق الكثير من الإنجازات بالرغم من “الثورة” العربية التي عصفت بوجهه وهددت رئاسته سنة 1958. الرئيس شمعون لم يتمتع بشعبية جارفة قبل انتخابه بل أصبحت أكبر بعد رئاسته. الرئيس فؤاد شهاب كان قويًا باحتكامه إلى الدستور الذي تمسك بحرفيته، واستطاع بناء مؤسسات ومرافق الدولة الحديثة ولم يكن يحظى بشعبية كبيرة، لا قبل ولا بعد انتخابه وهو الذي خسرت لائحته النيابية في عقر داره (كسروان). الرئيس بشير الجميل كان قويًا بشخصيته وعسكره لكنه لم يحكم. أما الرئيس عون فكان قويًا عشية الانتخابات بشعبيته وتحالفاته وأصبح فجأة عاجزًا “منزوع الصلاحيات” بعد انتخابه. برر مناصروه هذا التراجع والعجز بسبب فقدان الصلاحيات بعدما نزعها اتفاق الطائف سنة 1989. فمن تذرع متأخرًا بعدم وجود صلاحيات بيد الرئيس هو نفسه من نادى به رئيسًا قويًا يستطيع الإصلاح والتغيير قبل انتخابه. لذا أرى أن الرئيس المقبل يجب أن يكون ذكيًا لمقاربة معضلة الحكم مع أقوياء، حلفاء كانوا أم معارضين. على الرئيس العتيد أن يفيض بذكائه في السياسة الداخلية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وفي السياسة الخارجية أيضًا لأن السير بين النقاط لم يعد مجديًا، وفي السياسة الإقتصادية والمالية وفي التوازنات الداخلية وغيرها. بذلك يكون الرئيس قويًا بذكائه ومنتجًا بفعله. سيتوجب على الرئيس المقبل إذا أراد أن يكون فاعلاً أن يُصلح هذه التركة المعضلة بحنكة ومقاربة واقعيتين. وعلى كافة الشركاء في الوطن وخصوصًا “الأقوياء” وأصحاب القرار أن يكونوا واقعيين كذلك ومنطقيين، فمصلحة من يمثلون من شعبهم هي من مصلحة الوطن ولا يمكن الفصل بينهما. رب قائل أن ليس هنالك “أذكياء” بين السياسيين يتطلعون إلى المصلحة العامة بل أصحاب مصالح شخصية أو حزبية، تتقاطع أحيانًا مع حلفاء مفترضين وتتعارض أحيانًا أخرى فيتحول الحلفاء إلى أخصام وهذا ما أثبتته تجارب عديدة أدت إلى فقدان الثقة بكل الطبقة السياسية. أمام هذا الواقع، لن يكون مفاجئًا تفاقم أزمة الحكم في لبنان مع الرئيس الحالي ومع رئيس آتٍ قبل أن تُنتج هذه الأزمة حلاً جديدًا، ليس بسحر ساحرٍ ولكن بالقوة المفروضة من الخارج أو بنزاع مرير في الداخل.