بقلم ادوار حنين
القيت في ” الندوة اللبنانية ” في شباط سنة 1960 ، ونشرت في ” محاضرات الندوة ” السنة الرابعة عشرة ، 1 – 2 كانون الثاني – شباط 1960 .
سيداتي سادتي ،
” عبر من التاريخ اللبناني ” موضوع محاضرة الليلة ، حلقة من سلسلة محاضرات هذا الموسم التي عنوانها : ” في صميم الحاضر اللبناني ” .
من عبر التاريخ في صميم الحاضر مظهر للتناقض الحبيب الذي يميز صديقي ميشال أسمر دون الرفاق جميعاً ، أو هو أحد من وجوه العجب والاعجاب اللذين ما برح ميشال أسمر ينتزعهما انتزاعاً من رفاقه ومحبيه .
وهو ، وحده ، بين جميع من أعرف يقبل عليك وكأن رأسه مدار الى الوراء ، أو يدبر عنك وكأن رأسه مدار اليك . وهو ، وحده ، بين جميع من أعرف ، أستطاع أن يلتقي كل انسان على كل شيء دون أن يحيد قيد شعرة عن طريقه ، ودون أن يطرح مثقال ذرة من أطنان ما به يعتقد ، وما به يؤمن ويدين .
عبر من التاريخ اللبناني . هذا يفرض ، بداهة ، أن صاحب الكلام في مثل هذا الموضوع يؤمن بالتاريخ يرشد ويعلّـم ، اذ يستخلص منصميم الماضي خطة في صميم الحاضر .
على أنّ التاريخ ، في الرأي المعاصر ، بعد أن قفزت الانسانية في عالم الغد قفزاً يكاد يكون مدوخاً فقارب أن تنقطّع أوصالها مع الأمس الذي عَبر ، بات هذا التاريخ شيئاً من إنسان وضيع ، ابن نعمة تجاوزته النعمة ، عاجز على اللحاق بالذين سبقوه ، في كل طريق ، مشغول بيومه ن قاصر على التنبؤ بما سيكون غداً ، يقول عن نفسه ما تصور شارل بيغي أن يقول : ” يحسبون أني محكمة . بئس المحكمة التي يحسبون ! ويحسبون أني القاضي ، على أني لست أكثر من كاتب ضبط أتولى تسجيل الوقائع ” .
حتى أن بعضهم تمادى في الاعتقاد بأن الانسانية ، في مشيها الصاعد أبداً الى عوالم جديدة ، صار يعيقها التلفت الى الوراء ، لحد ان راح أمثال تيودور مند يكتبون تاريخ المستقبل .
ومع ذلك ، أنا من قضى عمره خادماً في هيكل التاريخ ، ما زلت أجد طمأنينتي حيثما وجد الجدود طمأنينتهم ، وقلقي حيثما كانوا يقلقون . أنظر الى التاريخ نظرة الأبن الى أبيه . فان لم يكن له مرشداً ومعلماً في كل شيء فهو المرشد والمعلم في شؤون عائلته وبيته ، يعرف على ما أسست الدار والعماد عليها تقوم ، يعرف ركائز القوة ومواضع الخور ، يعرف منافذ الشمس ومسالك الهواء ، جوانب البؤس ومطارح الهناء ، أين كان فراش الموت لبانيها ، سرير الوضع ، مهد الطفولة ، ديوان العتاب ، طرّاحة السمر ، قاعة المصالحات لساكنيها .
أنظر الى التاريخ صلة وصل بين جيل وجيل ، خبز السالف للخالف ، شميم القدوة ، طريق الاستمرار ، وحكاية الأبرار الجدود والطيبات الأمهات التي هي أروع حكاية .
إقرأ المزيد ←